(1)
فِيْ شَارِعِ البُؤَساءِ سِرْتُ لِساعَتَينْ
وَبِهِ رَأَيْتُ مِنَ الغَرابَةِ رَأْيَ عَينْ !
صَادَفْتُ عِنْدَ دُخُوْلِهِ
حَسْناءَ تَرْفُلُ بِالجَمالِ وَحِيْدَةً ،
خَاطَبْتُها
فَرَأَيْتُ عَيْنَيْها تَوَقَّدَتا احْمِراراً ـ فِي الصَّباحِ ـ كَجَمْرَتَينْ
قالَتْ : ظُلِمْتُ بِفِرْيَةٍ
مِنْ جَاهِلٍ
كَذِباً .. وَمَينْ !
وَمَضَتْ تُغالِبُ دَمْعَتَينْ !
(2)
وَلَقِيْتُ بَعْدَ ذِهابِها
أُمّاً تَسِيْرُ مَعَ ابْنَتَيْنِ صَغِيْرَتَينْ ،
في الكَفِّ تَحْمِلُ وَرْدَتَينْ ..
وَعَلى مُحَيَّاها تَهَلُّلُ مَنْ تَهَيَّأَ لِلِّقاءْ ..
وَسَمِعْتُها لَهُما تَقُوْلُ بِلَهْفَةٍ :
سَنَكُوْنُ عِنْدَ القَبْرِ بَعْدَ دَقِيْقَتَينْ !
وَمَضَتْ تُغالِبُ دَمْعَتَينْ !
(3)
وَرَأَيْتُ بَعْدَ ذِهابِها
رَجُلاً عَلَيْهِ مِنَ المَهابَةِ مسْحَةٌ
لكِنَّ بَدْلَتَهُ الأَنِيْقَةَ سَتَّرَتْ
فِي صَدْرِهِ
هَمَّاً تَضَرَّمَ كَاللَّهِيْبِ لِذُلِّ دَينْ !
وَمَضى يُغالِبُ دَمْعَتَينْ !
(4)
وَلَقِيْتُ بَعْدَ ذِهابِهِ ،
بَعْدَ المَسِيْرِ بِخطوَتَينْ ..
شَيْخاً يَقُوْدُ حِصانَهُ مُتَوَكِّئاً..
وَعَلى حِصانِ الشَّيْخِ حِمْلٌ مِن حَطَبْ ،
لِيَبِيْعَهُ
لِذَوي القُصُوْرِ بِدِرْهَمٍ أَوْ دِرْهَمَين ..
يَمْشِي الحِصانُ بِبُطْئهِ ..
فَالسَّاقُ أَضْعَفَها العَطَبْ
وَالجِسْمُ أَهْزَلَهُ السَّغَبْ
والخَيْلُ تُدْرِكُهُ وَتَسْبِقُهُ بِعِزِّ نَشاطِها ..
حَتَّى الحَمِيرْ ..
فَشَكَى الحِصانُ بِنَظْرَةٍ أَوْ نَظْرَتَينْ
فَأَجَابَ صَاحِبُهُ : فَهِمْتُكَ إِنَّ في
قَلْبِيْ لِأَجْلِيْ حَسْرَةً ،
وَحَمَلْتُ فِيْ قَلْبي لِأَجْلِكَ ـ يا صَدِيْقي ـ حَسْرَتَينْ !
(5)
وَوَجَدْتُ بَعْدَ ذِهابِهِ
أَعْمى تَزَحْلَقَ سَاقِطاً أَرْضاً بِقِشْرَةِ مَوْزَةٍ ،
مَفْقُوْءَةٌ عَيْناهُ مِنْ زَمَنٍ وَلَيْسَ بِوُسْعِهِ
أَنْ يَغْسِلَ القَلْبَ الحَزِيْنَ بِدَمْعَةٍ
حَرَّى تُواسِي الوَجْنَتَينْ
فَرَفَعْتُهُ
وَمَضى يَقُوْلُ لِنَفْسِهِ :
لَوْ أَسْتَطِيْعُ بُكاءَ نَفْسِيَ مَرَّةً ..
كالآخَرِيْنَ بِدَمْعَةٍ
أَوْ دَمْعَتَينْ !
(6)
ولِشارِعِ السُّعَداءِ قَرَّرْتُ الدُّخُوْلَ بِلَهْفَةٍ ..
بَعْدَ التَّرَدُّدِ مَرَّتَينْ !
كانَتْ فَوانِيْسُ الطَّرِيْقِ تَهَشَّمَتْ
فَوْقَ الرُّخامِ بِنَزْوَةٍ ..
بِحِجارَةِ السُّعَداءِ حِينَ تَنافَروا
لِيُمارِسُوا طَقْسَ الطُّفولَةِ عَابِثِينْ !
فَوَجَدْتُ شَارِعَهُمْ بَعِيْداً عَنْ ظِلاالِ العابِرينْ ..
لكِنَّني
شَاهَدْتُ قُطْعانَ الكِلابِ عَلى الطَّرِيقْ
فَخَلَعْتُ نَعْلِيْ .. لَيْسَ ثَمَّ حِجارة فَوقَ الرُّخامْ ..
وَقَذَفْتُها
بِالنَّعْلِ مُنْتَشِيَ اليَدَينْ ..
فَتَسَرَّبَتْ ..
لَمْ أَدْرِ أَينْ ..!
(7)
فَسَمِعْتُ بَعْدَ ذِهابِها
فِي الحالِ أَصْواتَ العُواءِ قَريْبَةً
وَرَأَيْتُ قُطْعانَ الذِّئاب تَسُدُّ مُنْعَطَفَ الطَّرِيقْ ..
وَبِنَعْلِيَ الثَّاني قَذَفْتُ جُمُوْعَها ..
وَرَمَيْتُها بِزُجاجَتَينْ !
وَرَجَعْتُ أَرْكُضُ حَافِياً
فَتَجَرَّحَتْ قَدَمايَ مِنْ قِطَعِ الزُّجاجِ عَلَى الرُّخامْ ..
وَالشَّمْسُ يَحْجُبُها الغَمامْ ..
وَلِشارِعِ البُؤساءِ عُدْتُ بِلَهْفَةٍ
وَأَنا أُغالِبُ دَمْعَتَينْ !
وَأَنا أُغالِبُ دَمْعَتَينْ !
محمد شريم
25/9/2016م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق